ألم أخرس
نسمات رياح باردة هادئة تربت على أوراق الأشجار الصفراء بجانب عتبة منزله، ربما تمهد لشتاء بارد هذا العام، كان يجلس هناك، على كرسي من خشب الزان يسند ظهره، أمام مدخل بيته، نحيل القامة، و طويل الهامة، رغم قوة أثار العمر على انحناء ظهره، يلبس جلبابا أبيض بنصف كم، أكل الدهر من أطرافه ما يكفي لعكس ملامح الضعف والهرم بين خلاياها، نظراته الحادة تذكرني بنسور المتاحف المحنطة، فكم من الجميل أن تحمل عينان غائرتان كتلك بصمة رجولية طاغية.
ومع هذا فكان الألم يتكور شيئا فشيئا على نفسه، فهو لا يزال ينتظر عودة صغاره حيث وهدوه بأن يكونا بالمنزل قبل أن يحل الغروب، قوى الرصاص المباغث أقوى من وعدهم، سرقت روحهم وبقي هو على حاله ينتظر عودتهم منذ ذاك اليوم.
لم يستطع أحد من أصدقائه أو جيرانه أن يرسم ابتسامة على شفاهه المتجعلكة أو حتى إقناعه بالخروج من المنزل؛ كنت أقف أمامه صامتا عند مروري من امام منزله ، لم أجرأ أبدا على الحديث معه، لكن ذاك المساء قررت أن أقاسمه سمره الليلي رغم ثقتي بأنه لن يهتم بوجودي، جلست بجانبه على قطعة من حجر، كان اليأس يتكوم حوله، والغبار يتطاير شيئا فشيئا كان الهواء يصفر بنسمة باردة خفيفة معلنا بداية فصل الشتاء.
جلست أنظر إليه ….. سألته كيف الحال؟
لم يعرني أي اهتمام، ولم يحادثني، كان يمسك بين اصابعه صورا أخرجها من محفظته، تمليء وجوههم ابتسامات عريضة، وضحكات أكاد أسمع صداها يدوي في الأرجاء، يتشبت من خلالها ببعض الذكريات، أخذ يرمق الصور بعينين جامدتين؛ رفة جفونه تحكي ألماً يقاس بمقياس الزلازل، طقطقة مفاصله تدل على إنهاك مفرط، أظافره التي نالت منها أسنانه تدل على براكين تنتظر الثورة لتطلق قذائف الحمم بشكل عشوائي .
تمتمتُ بألم، كم من ستائر القلب نمزق، كي نربط جرحاً نزف تباريح الغياب، إلتفتُ نحوه. لأجد دموعا عبرت الخدود المتجعدة، لتحضنها حبيبات طين رطبة، حاولت مرة أخرى بفتح حوار معه، وأخدت أتحدث لوحدي ،أعلم يقينا انه لن يعرني اهتمام. ومازال الصمت يحيط بالمكان، صمتاً يملأه الألم، والشتاء يحاول أن يثبت وجوده بقوة هذا العام.
أخد يزفر غبارا أو ألما،لاأدري ولكن تلك الذرات الذي خرجت كانت تود أن تقول أو ربما تصرخ، أو تبكي، أحسست في ذاك الوقت بأنها اختنقت من السكون، اختنقت من البكاء الصامت.ألا أيها الصبر أنقذه فقد مل الصمت، ألا أيها الصوت عبر عنه، كن جريئا، لماذا تتخادل هكذا؟فهنا يجلس وحيدا، وشوق يقتله وحنين يجذبه إلى اللاشيء، إلى اللا مكان، وأي شوق، شوق هو من النوع الغريب قليلا، شوقا ممزوجا بغضب، بحرارة الألم الأخرس، بدموع محبوسة تتحداه بالخروج، ممزوجا بفكره المليء بالتساؤلات؛ يحاول السيطرة على نفسه، فهل يكفيه ذلك، لا أظن، لا حزنه، ولا فرحه، ولا كل ما يملك من أحاسيس سيتيح له الهدوء، كل ما يملكه هو الشوق، والقليل من الدموع، والكثير من الألم، والغصة القوية.
فكل الأشياء تؤول للشيخوخة إلا روحه المسكونة بخيال صغاره، فكل الأحلام ثكلى في وكرها، إلا وهمهم اللذيذ، إلا طيفهم، الذي يركض في ربوعه.
أغمض عيناه، هل سينام. ربما ؟، عله يبتعد عن همومه التي صارت مرآة لوجهه ، الذي يفسر أن كل شيء سيء، حركاته الاإرادية تجعلني على ثقة أنه سيهرب عن محيطه الذي أضناه، تركته ليرتاح لعل النوم يذهب عنه الوقوع في متاعب جديدة، لم أحرك ساكنا، خشية إزعاج نومه.
استمريت اراقب تحت ذاك الضوء الخافت المتسلل عبر تراكمات السحاب وهو يحاول أن يعلن بداية نهارٍ جديد، ينتهي من خلاله الخريف، ليستقبل الشتاء في أول أيامه، حاملاً معه ملاءة بيضاء، التفت حول الأطراف المتعبة والعيون المجروحة، كبلَتْ حُزنه وسافرت به بعيدا، حيث النعيم، حيث يسكن صغاره.