Skip to main content

الظل الذي يكشفني بدلًا من أن يخفيني

نشر بتاريخ: |

الظل الذي يكشفني بدلًا من أن يخفيني

5
(5)

عشتُ طويلاً أرى نفسي كجزء من مدينة منسية على خريطة ليبيا، مكان نادرًا ما يتحدث عنه أحد، كأنه مجرد ظل تحت ضوء يتركز دائمًا في مدن أخرى. كنتُ أعتقد أن الظل يخفي، يمنحك فرصة للتواري بعيدًا عن أعين العالم، فرصة لتكون نفسك دون الحاجة للتفسير أو الدفاع عن وجودك. لكنني أدركت مع الوقت أن الظل لا يُخفي دائمًا، أحيانًا، هو الذي يكشفنا على حقيقتنا.

هل يكشفنا الظل حقا، في إحدى الأمسيات التي حملت معها عبء يوم طويل، وقفت أتّكئ على عصا بعد أن أنهكتني عملية تنظيف سياج البيت، الذي خضع لرياح عاتية هبت فجأة على هذه المدينة الهادئة. كانت الشمس قريبة من الأفق، مائلة للغروب، تُلقي ضوءًا خافتًا ناعمًا، جعل ظل العصا يمتد طويلاً على الأرض. كان الظل متموجًا، أشبه بثعبان يتحرك في صمت، يخفي حقيقة العصا الجامدة البسيطة.

أثار هذا الظل فضول ابن أخي الصغير، الذي اندفع نحو معركة خيالية ضد “الثعبان”. كان يقفز عالياً، ثم يسقط وهو يصرخ بانتصار: “قتلتُ الثعبان!”. رحت ألهو معه، أحرك العصا لتغير موضع الظل، فيتبعه بخطواته الصغيرة، ينهك نفسه في ملاحقة ثعبان لا مبالٍ، مسجون في سكونه على الأرض. ضحكنا معًا، حتى أرهقنا التعب تمامًا، ساخرين من ثعبان جامد لا يدافع عن نفسه، لكنه أطلق خيالنا إلى أبعد الحدود.

في تلك اللحظة، عاد إلى ذاكرتي حديث مدرب الفوتوشوب الذي حضرنا ورشته في نوفمبر. كان يشرح بحماس عن قوة الظل في الصورة، وكيف يمكن للظل أن يضيف بُعدًا آخر لمشهد يبدو عاديًا. وقتها همستُ لنفسي: “حقًا، بعض الظلال أكثر وقعًا وأشد تأثيرًا من الشيء الذي تعكسه”. كما هو الحال مع ظل العصا الذي بدا كالثعبان، الظل الذي اختلق قصة أكبر من حقيقته الجامدة.

الظلال كانت دائمًا جزءًا من طفولتنا، خاصة في تلك اللحظات التي كان فيها الضوء ينقطع، فتبدأ أيدينا بالتحرك لتخلق طيورًا وحيوانات على الجدران. كانت ضحكاتنا تملأ المكان، تهلل: “خلّي الحمامة تطير”، بينما يرافقنا انبهارنا بتلك الأشكال البسيطة التي صنعتها أيدينا. واليوم، كلما انقطعت الكهرباء، تعود تلك اللعبة من جديد، وتعود معها ضحكات أطفالنا أو صدى ضحكاتنا ونحن أطفال.

حديث المدرب عن جمالية الظل انعكس في داخلي، تمامًا كما تعكس الظلال بُعدًا آخر في الصورة. أدركت أن الظلال لا تقتصر على كونها انعكاسًا لما هو موجود، بل تصنع واقعًا جديدًا، تحمل فيه قوةً وقصصًا، أحيانًا تكون أكثر وقعًا وأشد حضورًا من الضوء نفسه. الظل ليس مجرد فراغ أو غياب، بل هو حضور يحمل أبعادًا لا تراها العين المجردة إلا إذا تأملت

الظل المعروض في الصورة المعروضة بجلسة التدريب أمامي على الشاشة كان يعكس عمق ومشاعر وأنحناءات لم يعكسها الجانب المتواجد بالضوء، تأملت كيف أن الظل يمنح بعدا أخر، وكأنه يروي حكايات غير مكتملة، شعرت أن هذا المشهد يعبر عن شعوري بالإنعزال والأختفاء غالبا بعيدا عن الناس أوالإختفاء خلف الأحاديث وصخب التجمعات العائلية وجلساتها المليئة بالأضواء والإنكشاف.

 الظل، بالنسبة لي وكما فهمته من شرح المدرب لا يخفي بقدر ما يظهر، أنه يعكس جمالية الروح تماما ، كانعكاسه على الصور وكيف أضاف عمقًا وبعدًا وقوة أخرى للصورة مماثلا لأنعكاس الثعبان من ظل العصا البسيطة. وهكذا الظل في حياتنا يخلق توازنا ويمنحنا جمالية الصورة الكاملة.  كظل هذه المدينة الذي ينشر بعدا أقوى لضوء مزيف يتركز في مدن أخرى.

فهل البقاء في الظل أحتياج أو هو ركون حتى لا نكشف وجهنا للضوء؟ في زيارتي الأخيرة لطرابلس، شاركتني صديقتي التي أجبرتها الظروف للانتقال لطرابلس، جلسنا ونحن نحتسي القهوة في مواجهة البحر بأمواجه المتلاعبة في يوم بارد. جلسنا على كرسي يبدو لامعًا لكنه متسخ بأثر القطط، مما جعلنا نلتف على أحد جانبيه ونتقاسم شالها الكشميري. همست لي قائلة: “البقاء في طرابلس كمن يجبر نفسه على الابتسام طوال الوقت، كما لو أنه عالق في إطار صورة تُسلط عليه الأضواء بقوة.”

أكملت حديثها واصفةً حنينها إلى هدوء سبها، مدينتها التي كانت تعيش في ظلها. قالت: “هنا في طرابلس، أشعر أنني ككشاف يدوي ساطع، لا ينطفئ أبدًا، حتى تحت وهج الشمس.” وسط ضجيج الأضواء والصخب المحيط بها، تبحث دائما عن ظل تركن إليه، مثل ذاك الظل الذي كان يعكس حقيقتها بسبها، بعيدًا عن ما يريده الآخرون منها.

أدركتُ أن الظل لا يعني دائمًا الاختفاء أو الانزواء، بل قد يكون احتياجًا داخليًا لنكون كما نحن، دون أقنعة أو تصنع. هو مساحة للتنفس، حيث تعكس أرواحنا أعماقها دون تشويش الضوء المزيف. ربما، في الظل، نجد أنفسنا، أو على الأقل، نجد صورتنا الأكثر صدقًا.

ربما نحن بحاجة ألى تعلم كيف نستمتع بالظل، لان السعي وراء الضوء طوال الوقت قد يجعلنا نتوه ، أنا حرفيا أحب الظل ، أحب هذه الانطوائية التي تمنحها سبها ، هذه الحماية والراحة أقف هنا تحت ظل هذه المدينة أراقب الجميع دون أن أشارك، ودون أن ينتبه لي أحد، حيث أكون قريبة وبعيدة في آن واحد.

كفتاة تعيش في مدينة منسية بعيدة عن وهج الأضواء، فالظل جزء أصيل من حياتي فالظل هنا أحيانا هو shade يمنحنا السكينة بعيدا عن أيدلوجيات غريبة متقافزة وصورا نمطية مقرفة تنسج عن الآخر،  واحيانا أخرى الظل هو  shadow يعكس صورة مغايرة لحقيقتنا، أويكشف بعدا خفيا من واقعنا. في كلتا الحالتين، يظل الظل قوة صامتة لهذه المدينة، وجودها واضح لكنه غير مرئي.

المدن المنسية دائما كالظلال تكمل الصورة العامة للوطن، لا يمكن  أن تكون الصورة كاملة بدونها ، نعيش هنا في الظل، حيث الصمت يملأ الفراغات والضوء يمر عابرًا بلا اكتراث. يصبح الظل هو الراوي الصامت لحكايات تلك المدن. هو أثر الزمن الذي لم تلتقطه الكاميرات ولم تُدونه الأقلام. إنه خريطة غير مرئية، تحفر على الأرض وفي الجدران حكايات غير مكتملة، كأن المدن نفسها تختبئ فيه، تاركة آثارها لمن يعرف كيف يقرأ الظلال

ماتقييمك لهذا المنشور !

المشاركة على مواقع التواصل الإجتماعي

تعليقات (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *