Skip to main content

ومن كــــأمي

نشر بتاريخ: |

ومن كــــأمي

4.7
(20)

الجلسات المسائية مع أمي غنية كقلبها ورغم زحمة الحياة والعمل فلا أتكاسل في مشاركة أمي سردياتنا بآخر اليوم. تحدثت معها مساء الأمس عن تقرير تحصلت عليه لبعثة اليونيسكو. كتبت التقرير السيدة أمينة عيساوي مسؤولة التعليم النسائي في مشروع دعم تعليم الفتيات بفزان في الفترة ما بين 1960 و1964. على أثرها شاركتني أمي بالأمس ورقات من مذكراتها بستينيات القرن الماضي، كنت بغباوتي قد مزقتها لها في طفولتي لكن احتفظت أمي بما تبقى منها. وهيا تكرر شفت شن درتي فيها! لا أخفيكم سرا بأنني لا أتذكر أني قد تعاقبت من أمي بعد ما مزقت أوراقها، فأمي سيدة سريعة التسامح لا تغضب بصوت، لا تكسر الأواني لا تضرب لكنها يكفي أن ترسل نظراتها حتى تتهشم لألف قطعة، يحزنني أحيانا بأنها لم تمرر لي هذا الهدوء.

بدأ تعليم الفتيات بسبها عام 1955 وكانت أمي ضمن طلائع أول الفتيات الملتحقات بالتعليم بسبها. تخبرني أن أستاذتها نديمة شرف الدين كان لها الدور الكبير في إقناع شيوخ المنطقة لإلحاق بناتهن بالمدارس. بأول عام التحقت ما يقارب 60 طالبة بالصف الأول انقسمن على فصلين، فصلا تدرسه الأبلة نديمة شرف الدين وفصل تدرسه المعلمة برنية علي الحاج. الأمر اختلف عند الانتقال للصف الثاني فلم تكمل الدراسة إلا 15 طالبة والتحق بصف الأولى للعام التالي 15 طالبة تشاركون نفس الفصل ونفس المعلمة. عندما وصلت أمي الصف الخامس، فقط خمس طالبات استمرت للدراسة حتى ذلك الوقت وهن (أمي كلثوم السعيد، فاطمة محمد عبد القادر، حليمة العربي، فتحية قنانة ، خديجة علي صالح) ورفضت الإدارة فتح فصل خاص بهن وطلبت منهم الالتحاق بفصل البنين، فرفض والدها الأمر أن تدرس مع البنين.  هنا تبدوا أمي وهيا تقرأ مذكراتها تسترجع بعض الغصات فلم يكن الأمر هين عليها أن تترك الدراسة فيما زميلاتها يكملن مسيرتهن التعليمية. فأصرت أمي على مواصلة التعليم من البيت والدراسة والذهاب في وقت الامتحانات واقتنع جدي بأن تذهب أمي وقت الامتحانات لكن للأسف بعد رسوب أمي في الحساب بالفترة الأولى هنا تدخلت جدتي وأقنعت جدي بذهاب أمي للمدرسة وأكملت باقي الدراسة بالخامس والسادس حضوريا بمدرسة علي بن أبي طالب حتى أخذت الشهادة الابتدائية بتفوق.

“الصورة من ارشيف والدتي مع زملائها وزميلاتها بالصف الخامس الإبتدائي بمدرسة علي بن أبي طالب مع أستاذهم المرحوم القائد الكشفي أبوالقاسم ابوخريص”

 كانت وقتها بعثت اليونيسكو بعام 1960 عزمت على فتح معهد المعلمات بفزان، حيث تبرع خال والدتي الحاج علي بن حامد بقطعة أرض أنشأت عليها اليونيسكوا معهد المعلمات مع وجود داخلي للفتيات القادمات من قرى الجنوب المختلفة. متكون من غرفتي كبار تسع عدد 60 طالبة لإقامة الفتيات من خارج سبها، 6 فصول تعليمية، 4 غرف ادارية صغيرة، غرفة طعام ومطبخ ومخزنين، يعرف المكان اليوم بمنارة الحضيري.

سعت اليونيسكو على توفير فرص تعليم متساوية للفتيات من مختلف مناطق فزان لاستكمال دراستهن الابتدائية والالتحاق بمعهد المعلمات لتزويد منطقة فزان بمعلمات ذات جودة من المنطقة نفسها. نظمت البعثة حملات لقرى الجنوب المختلفة وبلقاءات متفرقة مع أعيان منطقة الجديد لإقناعهم لاستكمال دراسة بناتهن لمدة أربع سنوات للحصول على شهادة التدريس.

“الصورة من أرشيف أمي لأحتفالية عيد الإستقلال بعام 1968 بمشاركة طالبات مدرسة الجديد الإبتدائية”

لم تكن أمي محظوظة لاستكمال دراستها في معهد المعلمات بعد حصولها على شهادة التعليم الابتدائي هنا تدخل جدي ومنع والدتي من الدراسة بالمعهد. تصف لي أمي الحادثة ظلت أياما تبكي حسرة وسرعان ما تعافت ونست الأمر لصغر سنها في تلك الفترة ظلت أمي جالسة بالمنزل لمدة عامين، تعلمت أمي الخياطة وامتهنتها كحرفة. لكن لم ينته الأمر هنا بعام 1964 دخلت صديقة والدتي الأبلة مبروكة إبراهيم سنة أولى معلمات هنا قررت أمي أن تدرس بالمنزل وتذهب بفترة الامتحانات، كان لمبروكة إبراهيم الفضل الكبير في مساعدة أمي في اجتيازها الامتحانات ومساعدتها في الدراسة بالمنزل. استمرت أمي هكذا درست سنة أولى وثانية وبسنة ثالثة رسبت أمي بالفترة الأولى لصعوبة المنهج وعدم قدرتها على الدراسة عن بعد بنفسها.

أمي رغم صغر سنها وقتها لم تستسلم لرفض والدها ودعمتها جدتي في استكمال دراستها والعودة حضوريا للمعهد لاستكمال دراستها فرفض جدي الأمر وتوترت العلاقات العائلية حتى وصلت لطلاق جدتي. أكملت أمي دراستها ونجحت بالسنة الرابعة بتقدير جيد جدا بالترتيب الثاني وكانت تاسع معلمة تتحصل على رخصة التدريس بمدينة سبها بعام 1968.

أمي كانت ولا زالت قدوتي في كل عقبة أواجهها في الحياة، أمي الأمل النضر الذي يشدني إلى الحياة، ويدفعني لأطوي الأيام القاسية، وألونها بالإشعاعات الدافئة التي يبثها وجودها. أمي مسكونة بالأرواح الطيبة والطاهرة. أمي لم تنل شهادة تكريم واحدة بحياتها، كبرت أنا وأصبحت أتلقى التكريم نيابة عنها في كل مرة أعرف بنفسي وأقابل إحدى طالباتها لترحب بي وتخبرني أمك معلمتي، أمك مربيتي. وأحب دائما هذا الوصف عندما أتواجد بالأماكن العامة حينما يشار إلي ببنت أبله كلثوم.

تجربة أمي هي نموذج لتجارب لا زلت تتكرر معنا ليومنا هذا، فهنيئا لكل الفتيات بأي مكان المكافحات والمناضلات في سبيل تحقيق أهدافهن وطموحاتهن. أنتن لسن وحدكن فكلنا نخوض نفس التجربة بطريقة وأخرى.

“صورة الغلاف من ارشيف والدتي بالسنة الرابعة بمعهد المعلمات مع زميلاتها ومديرة المعهد استاذة فاطمة استيتية”

ماتقييمك لهذا المنشور !

المشاركة على مواقع التواصل الإجتماعي

تعليقات (12)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *