القصة ابتدأت أثناء دراستي في الصف الأول الثانوي بمدرسة القدس في سبها، حينما أُعطيت تعليمات صارمة لكل الطالبات بعدم ارتداء أي قطعة إضافية فوق الزي المدرسي، مهما كان لونها. إذا شعرنا بالبرد، فكان علينا الاكتفاء بملابس دافئة تحت الزي الرسمي. القرار جاء بقرار إداري تُوج بعصا طويلة تمسك بها مساعدة المديرة، وهي تؤكد علينا التعليمات أثناء الطابور الصباحي، بعد اكتمال الجمع العسكري وترديد نداءات الحياة معها.
لا أخفيكم أن هذا القرار كان يعني حرماننا من ارتداء معاطف أو جاكيتات تحمينا من برد الساعات الأولى للصباح، قبل أن تستقر الشمس في مركزها. ندخل فصولنا المعتادة، التي لم تكن تحمل إلا كراسٍ خشبية قديمة، متهالكة من كثرة الاستخدام. نحاول بائسين الجلوس عليها بصمت، حتى لا تصدر أصواتًا أو تتأرجح فنتعاقب على إثرها عقابا أخر، بينما الهواء البارد يتسرب من نوافذ الفصل والزجاج المتكسر.
هذا البرد المستمر تسبب لي في حساسية صدر مزمنة، والتهاب دائم في الجيوب الأنفية. عشت شتاء ذلك العام متنقلة بين التهاب وحمى وزكام دائم وسعال مؤلم يمزق صدري. كل سعلة كانت وكأنها تنزع جزءًا من داخلي.
قررت التمرد على القرار، واشتريت جاكيتًا بلون بيج قريب من لون الزي المدرسي، أملًا في التماهي مع التعليمات دون لفت الانتباه. لكنني لم أسلم من العقاب. عند اكتشاف المخالفة، وقفت أمام المعلمة التي طلبت مني تسليم الجاكت، لتصادره مني بلا تردد. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، امتدت العصا لتلقي عليّ عقابها. جاهدت وقتها بأنف مسدود وصدر يئن، أمد يديَّ لتلقي الضربات، وأنا أسترجع في كل ضربة ألم البرد والمرض والقرارات التي كادت أن تودي بحياتي.
جلست القرفصاء، ألهث في ركن الممر قبل دخولي الفصل، أقبض على كفّي بحرقة وأنفخ فيهما بنفس متقطع، بينما الدموع لا تجف، تزيد من حرقة عينيّ وأنفي وصدرِي. كنت أحاول تهدئة نفسي قبل أن أدخل الصف.
هكذا بدأت رحلة طويلة من معاناة التهاب الجيوب الأنفية، والتنفس المختنق، وشعور دائم ببرد يلفح صدري، يتجدد كل يناير، مصحوبًا بصوت تلك العصا وهي تهوي بسرعة متتالية على كفّيّ. كان عليّ أن أتناوب بينهما لتلقي الضربات، لأن أي فشل في تلقي واحدة يعني مضاعفتها.
أصبحت “بشرى” معروفة بمعاناة التحسس والاختناق من الروائح الحادة والقوية .وجملة “طلعوا البخارة لبرا!” مصاحبة لي بكل الزيارات الإجتماعية. كل هذه الروائح كانت تزيد حالتي سوءًا. والأدهى من ذلك، تلك الحرائق العشوائية الناتجة عن حرق القمامة المتكدسة في الشوارع، والتي تخنق الهواء ،فحتى محاولة إغلاق نوافذ البيت لم تكن كافية لمنع الدخان والروائح من التسلل. ومع كل مرة تتجدد المعاناة، يأتي الاختناق والصداع ليذكّراني أن هذا الألم بات جزءًا من حياتي اليومية
في ديسمبر من العام الماضي، عانيت من التهاب في الأذن، مما اضطرني لزيارة طبيب الأنف والأذن والحنجرة. تلقيت العلاج اللازم حينها، وأخبرني الطبيب أني أعاني من تضخم في غضاريف الأنف، وهو ما يزيد من انسداد التنفس والضغط على الأذن. قرر لي عملية جراحية كان من المفترض أن تخفف من هذه الأعراض.
لكن العملية زادت معاناتي بشكل لا يوصف. بدلًا من أن تصبح عملية التنفس بسيطة، هادئة، ولا واعية، أصبحت أتنفس بوعي كامل، بحركات محسوبة، بإيقاع مسموع، وبصحبة شعور دائم بالاختناق. هذا تحديدًا ما يُعرف طبيًا بـ “متلازمة الأنف الفارغ” (Empty Nose Syndrome)، وهو ما وقعت ضحيته بسبب خطأ طبي. الطبيب أزال غضاريف أنفي بالكامل بدلًا من إزالة جزء بسيط منها لتخفيف الانسداد.
متلازمة الأنف الفارغ هي أحد الأخطاء الطبية التي كانت تحدث غالبًا أثناء عمليات الأنف في الماضي، لكنها أصبحت نادرة مع تقدم العلم وتطور الأدوات الطبية. للأسف، لم يكن حظي من هذا التقدم وافرًا، فبدلًا من حل مشكلتي، وجدت نفسي أعاني من اختناق دائم، جفاف مؤلم، وفقدان كامل للشعور بمرور الهواء عبر أنفي.
اليوم تحديدًا، مر عام كامل على هذه المعاناة المتزايدة. عام من صراع يومي مع الاختناق، الجفاف، والغياب التام لراحة التنفس الطبيعي.
اكتشفت السبب الحقيقي أثناء زيارتي لطبيب آخر في منتصف العام الماضي. أخبرته عن الأعراض التي تفاقمت بعد العملية، وعن وعود طبيبي السابق بأن الأمر يحتاج فقط إلى بعض الوقت لتتعافى الأنسجة بالكامل. خرجت من العيادة منهارة، أذرف الدموع بحرقة، وأتساءل كيف انتهى بي الحال إلى اختناق مزمن يُحرجني أمام الجميع. كل محاولة لي لأخذ شهيق قوي واستشعار الهواء، كانت تقابلها تساؤلات ساخرة: “خيرك تزنفي؟”، بمعنى “خيرك تتنفسي بقوة؟”.
لم أستسلم. استغرقت في البحث عن هذه المتلازمة، قرأت عن معاناة المرضى حول العالم، أسبابها، درجاتها، وطرق التعايش معها. تواصلت مع عدد كبير من المصابين، استمعت إلى قصصهم، تبادلت معهم المشاعر. في الوقت ذاته، نصحني كثيرون بمقاضاة الطبيب، وحتى أن صديقة محامية تطوعت لرفع القضية نيابة عني. لكن، ومع مرور العام، وجدت نفسي أتعايش مع الوضع. بدأت أشعر أن دعوى قضائية لن تعيد لي أنفاسي، لكنها ربما تزيد أوجاعي.
عبر مجموعات الدعم على الإنترنت تجدونها هنا عبر الفيسبوك وهذه المدونة أيضا، تعرفت إلى أشخاص يشاركونني الألم ذاته. شعرت أن معاناتي مقارنة بمعاناتهم لا تزال في حدودها الخفيفة. عدت إلى الرياضة منذ شهرين، عدت إلى التمارين البسيطة، لكنني حتى الآن لم أجرؤ على تجربة الجري أو قفز الحبل مجددًا. عجز التنفس لا يزال يلاحقني، لا أستطيع أن أصمد أكثر من دقائق معدومة أقفز الحبل قبل أن أسقط على ركبتي، ألهث كأنني أحارب لألتقط أنفاسي.
وهنا، أتذكر تعليقًا سمعته من شخص ما: “عليك أن تتصالح مع أنفك.” بالنسبة لي، تصالحت مع عجز أنفي أيضا. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه كان ضروريًا. عدلت كل تفاصيل يومي لتتماشى مع وضعي الحالي. أصبح التنفس بالنسبة لي ليس مجرد عملية لا واعية، بل تجربة عميقة أعيشها بكل وعي. كل نفسٍ أستنشقه، حتى لو كان شاقًا، هو شهادة بأنني ما زلت أحاول، وما زلت هنا.
ماتقييمك لهذا المنشور !
حفظك الله بشرى دمتي بخير وصحة وعافية 🤍