كعادتي كل صباح ألملم شتات نفسي وهشاشتي وأرممها وانا أدعك اسناني بفرشاتي وارتب شعراتي المتبعثرات الرافضات الانسياق مع جاذبية الطبيعة، واجاهد نفسي وأنا ألون تلك الابتسامة العريضة على وجنتاي واركض اواجه الحياة بكافة مطباتها و انسياباتها. كان يوما طويلا، لا أتحصل على بعض الراحة في جدول اعمال مزدحم يبدأ من الخامسة فجرا في وسط مدينة لا تستيقظ قبل الحادية عشر. يرى البعض ان روتين حياتي المزدحم والدقيق هذا عبارة عن قلق متزايدمتسببة به لنفسي واني ارغم نفسي على عيش حياة الغربيين في بيئة عشوائية قابعة في سط الصحراء. على عكسهم تماما أراه تحديدا روتين يتماشى مع بشرى وروح بشرى التي أعرفها وأعرف قدراتها. ولكنني لم أتساءل يوما هل أنا كما يراني الأخرون ، أم كما أرى نفسي؟
في حوار عابر مع صديقة، أخبرتها ذات مرة أنني أتعمد طحن حبات القهوة في ساعات الفجر الأولى، لأنني أحب أن أتذوقها بنكهة حقيقية وقوية، وأغرق في رائحة القهوة في الصباح الباكر وهي تمتد في ذاكرتي حتى المساء. كان حوارنا يدور حول مذاق القهوة وصناعتها وطرق ودرجات تحميصها، عندما فاجأتني بقولها: “قرأتُ مرة أن بيتهوفن كان يطحن كل يوم ستون حبة قهوة، كم حبة تطحنين أنتِ كل صباح يا بشرى؟” أجبتها ضاحكة: “هم 20 جرامًا فقط، لكنني سأعدّهم غدًا لأعرف.” ضحكنا واستكملنا حديثنا، لكني تذكرتها صباح اليوم التالي، واستغرقت عشر دقائق كاملة في عدّ حبات القهوة التي تزن 20 جرامًا. كان العدد 212 حبة. بعثت لها برسالة صباح الخير وكتبت: “212 حبة، ما رأيكِ؟ أعتقد أنني أتفوّق على بيتهوفن”
في سياق أخر ومن خلال حديث عام وسط جمع من الناس في لقاء مجتمعي تقليدي، شاركتهم طقسي اليومي في طحن القهوة مع ساعات الفجر الأولى، تماما كما تحدثت مع صديقتي تلك ، لكنني فوجئت بابتسامة جانبية من إحداهن وهي تردد بصوت طاغ وحدة واضحة: “تحبوا تقلدوا الأجانب، واستمرت تستصغر وتنقد هذا النهج الذي اتبع بناءا على تجاربها وتوجه لي بالنصايح ” شعرت بارتباك داخلي وأنا أعدل جلستي، وبدأت أتمتم لنفسي بنبرة جلد الذات التي تنتابني: “لماذا لم تلتزمي الصمت يا بشرى؟ لماذا سمحتِ لنفسكِ بالبوح وسط أشخاص لا يفهمون مقاصدكِ؟” أدركت حينها أن مثل هذه المواقف تتكرر في جلساتنا العامة، حيث يتنافس الآخرون على إلقاء أحكامهم وصنع صور نمطية عنا، وكأن تفاصيل حياتنا البسيطة تتحول في أعينهم إلى رموز تعكس وعيهم هم، لا حقيقتنا.
تساءلت: لماذا يجتهد البعض في بناء صورة عنا من مواقف مجتزأة؟ لماذا تتحول نوايا بسيطة كطقس صباحي أو عادة عابرة إلى مساحة لفرض أحكام سطحية تحمل معاني لم نقصدها أبدًا؟ أراقب هذا بشدة، وأتأمل كيف أن بعض الأحكام تُطلق على أناس أعرفهم جيدًا وأفهم مقاصدهم، لكنها في الحقيقة لا تعبّر عنهم بقدرما تعبّر عن هشاشة فكر الآخر أو محدودية رؤيته.
وحقيقة هنا أجد نفسي أمام سؤال يتردد صداه داخلي: من نحن حقًا؟ هل نحن طقوسنا الصغيرة؟ أم نظرة الآخرين المحدودة إلينا؟ أم شيء أعمق وأبعد عن كل هذا؟
حقيقة لا زلت لا عرف نفسي تماما، ربما كل ما انا متأكدة منه أن رغم كل هذا العمر لازلت الخجولة المترددة الشديدة الحساسية من أي كلمات أو تصرفات جارحة ومؤذية، فحساسيتي شديدة تجاه الكلمات المستقبلة وخاصة المؤذية منها، فأول من يستقبلها عيناي ومعدتي، تسقط بكل ثقلها على عيوني وتجتاز حاجز نظارتي رغم سماكته، لتفجر شلالا من الدموع ، أما معدتي فيتلوى بها القولون العصبي ويطعنها تماما كحدة طعن الكلمات المستقبلة، ولهذا أجاهد غالبا في تجنب أذاء الأخرين واتعامل مع الناس بحساسية بالغة للخوف من إيذائهم، رغم انزلاقاتي بعض الأحيان لكن تأنيب ماقبل النوم يرافقني أيضا ويسقط بسوطه ليجلدني كعادتي بلا هوادة.
في رواية لجين أوستن Pride and Prejudice لم تكن أليزابيت بينيث بغريبة عني في مواقف أتعرض لها حينما أسرد للناس وانا لا أخفيكم بأني احب سرد يومياتي وتجاربي كقصص وأتلذذ بوصفها. لأن بعض الأحيان الذي يعكس قوة الطرح هو الحالة المزاجية للوصف والشعور المنبعث معه، وهذا أمر ليس بمعتاد بين عامة المجتمع، فيغلب الحديث عن التجارب والأحداث المهمة بسمة الأنا، وهذا لا يعنيني حقا ، فالتجارب هيا مراحل منقاة من سير حياتنا وليست بامتيازات، وهذا ما اختلف فيه تماما عن هؤلاء الذين يلبسون وصفنا لباس منتقاة من ادراكهم الخاص بهم ، حينما قرأت قرأت الرواية وجدت نفسي اشبهها ، وهيا تتحدث وتدافع عن أفكارها وتسرد أحداث منتقاة من حياتها حتى ظن البعض انها متعالية ، بينما حقيقة هيا هشة لكن تلملم نفسها وتواجه العالم بشجاعة.
فغالبا حقيقة البس قناعا لا يشبهنني لست انا من صممه، بل قناعا صنعه الأخرون من أحكامهم المجتزأة من حواراتنا العابرة ، ولهذا أخاف دائما الحديث في وسط جموع لا تشبهني، وتجدني في جل لقائتنا العابرة في تجمعتنا المجتمعية أجلس صامته لا أريد شيء أريد فقط أن أختفي كعمود الإكسل التي بامكانك ان تخفيه بنقرة زر ليظل هو فعال ونشط ولكن دون أن يسقط الأخرين عليه أحمالهم وادراكاتهم الغير متماهية مع السياق نفسه.
لا أعتقد أن هناك حقا من يستطيع الحكم على الأخر فدراسة الأخر لا تتحدد بلقاءات عابرة ، فأنا بشرى التي تجلس مع نفسها في لحظات الصمت الطويلة تحلم وتعيد بناء هشاشاتها كل صباح وترتدي ابتسامتها ونظارتها وتلون شفافها بقلم حمرة أوشك على الإنتهاء، “لا أرغب في فتح الحمرة الجديدة بعد” وتنطلق لتواجه الحياة وأحكام الأخرين، أحكام أولئك العاجزين عن فهم الحقيقة وفهم أنفسهم أيضا.
The painting is Girl at the Mirror by David Muirhead
ماتقييمك لهذا المنشور !
شكلي بنجي ونبات عندك الفكرة في القهوة لما تكون من تحت يديك