Skip to main content

23 أكتوبر 2024

نشر بتاريخ: |

23 أكتوبر 2024

4.7
(15)

الساعة الخامسة فجراً. فتحت النافذة في مكتبي، وتسللت نسمة خريفية باردة حرّكت شعيرات منتصبة أعلى رأسي، لم يمسهن المشط بعد. الشارع ساكن، والليل في آخر أنفاسه، والظلام ما زال يخيم. لم يرتفع أذان الفجر بعد. هذا هو الوقت المناسب للوقوف قرب النافذة، حيث لا شيء أمامي سوى جدران الطوب العاري المتلاصق بدقة، يغلب عليه لون رمادي جامد، بلا لمعة طلاء تخفي عيوبه، يقف هناك بشكله الخام أمامي كلما فتحت نافذة مكتبي، يعكس الجمود في كل تفاصيله وكأن الحياة قد توقفت عنده.

الوقوف أمام النافذة في ساعات الفجر الأولى، والموسيقى في الخلفية، هو ملاذي للهروب من كل ما يثقل روحي. أقف هناك، في مواجهة الطوب والرمل الملتف حول الأرض، وأستمع إلى عالم لم يستيقظ بعد. في تلك اللحظات، تجد أفكاري وحدها مساحة للتنفس بعمق، وتستعد للتحليق من جديد.

أقضي معظم وقتي في مكتبي، الذي تحول إلى مكان عملي منذ أن بدأت العمل من البيت في السنوات الأخيرة. مساحة مكتبي تبلغ 3*4 متر مربع. حائط تملأه مكتبتي، وحائط آخر تحتله مكتبة والدي القديمة، وحائط ثالث يحتله طاولة مكتبي وكرسي رمادي على الجانب. أما الحائط الرابع، على جانبي الأيسر، تتوسطه النافذة. هذه النافذة وحدها هي منفذي إلى العالم الخارجي، الذي أغادر منه كل فجر حين تكون كل الأبواب موصدة.

تنفست قليلاً نسمات لطيفة، ولكن الصباح الذي لا تعبق فيه رائحة المخبوزات لا يمكن الاعتماد عليه. هذا هو الوقت المفضل لدي لإعداد المخبوزات. اليوم الذي يبدأ برائحة الزبدة والعجين هو وحده الذي يميز اليوم السعيد عن اليوم العادي، وكأنني بهذه القوة أستعد لمواجهة الحياة ونضج الأمل من جديد. أبدأ هذه الأيام صباحي بتغذية خميرتي التي أعدها لخبز الساوردو والفوكاتشيا. اليوم هو اليوم الثاني عشر، بقي يومان فقط وستكون جاهزة للاستخدام.. أشعر بحماس شديد.

اكتشفت مؤخراً مافن القرع ومافن الجزر، وكانت تجربة ناجحة وجميلة جداً. أعددت كوباً من قهوة V60، وفي الخلفية تعزف موسيقى إسبانية من فنان هو دائماً المفضل لدي. Benise music  . وجلست لأكتب هذه التدوينة بمذكرتي .

أجلس على مكتبي وتواجهني نبتة البوثس التي أعتني بها منذ أكثر من عامين. كانت الفكرة في البداية أن أكاثرها في الماء، لكنها نمت بشكل جميل ، تركتها في وعائيين زجاجيين منفصلين. يمكنني رؤية الجذور بوضوح وهي تلتف داخل الوعاء الزجاجي. على الأرض أيضًا، أصيص زرع لنبتة جلد النمر التي نمت بشكل جيد ومتوازن. احتفظت بها كهدية من هناء في عيد ميلادي في فبراير الماضي. هناء دائمًا تنتقي الهدايا التي تشعر أنها قريبة من روحي، فهي تعرف جيدًا بحبي للنباتات الذي أعتقد أنه انتقل لي من ماما. النبتة تكاثرت في الأشهر الماضية، وأشعر أنني بحاجة لنقلها إما إلى أصيص أكبر أو تقسيمها إلى أصيصين لتمنحها مساحة أكبر للنمو والتنفس بحرية.

فاجأتني هناء قبل أسبوع بهدية لطيفة للغاية، بعد أن أخبرتها في حديث عبر الواتساب بأنني أشتاق إليها، لكنني أمر بفترة قلق نفسي ولا أرغب في الخروج. في اليوم التالي، تفاجأت بوصول بار من الشوكولاتة المفضلة لدي وزهرات من نبتة الياسمين والريحان. ظلت رائحة الياسمين تملأ المكان لمدة أربعة أيام تقريبًا.

فكرة إهداء نبتة سحرية جدًا، أحب الهدايا التي تحمل جزءًا من أرواحنا نهديها للآخرين. هدايا تعيش وتنمو وتزدهر أمام أعيننا، وكأننا نقول: وهبتك روحًا حية تذكرك بما أحمله لك في قلبي، لنهتم بها كما نهتم بمشاعرنا تجاههم.

في زيارتي الأخيرة لطرابلس هذا الصيف، عدت محملة بروايات جمعتها من صديقاتي فاطمة وأروى بنت خالتي. ألتهم صفحاتها هذه الأيام بشغف واهتمام، وأكتشف من خلالها مشاعر وتجارب جديدة. انتهيت مؤخرًا من قراءة *كونشيرتو قورينا إدواردو* للكاتبة نجوى بن شتوان، ولا زلت عالقة هناك، أبكي ريم حتى هذه اللحظة

.بعض الأحيان أعيش لحظات من فقدان البوصلة، حيث تتكاثف الأفكار وتتوتر النفس، كما حدث لي في نهاية سبتمبر. كنت أجد نفسي غارقة في بحر من القلق المستمر، حتى شعرت في لحظات بضياعِ داخلي، وكأنني أواجه فوضى لا تهدأ. لكن، وبشكل مفاجئ، وجدت نفسي أقف بجرأة أمام تلك المخاوف، وأعيد إشعال الضوء الذي كاد يخبو بداخلي.

قد يبدو اضطراب النفس أمراً صعباً، لكنه يحمل في طياته وعداً بالسكون القادم. ومع مرور الوقت، بدأت أترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي، دون تدخل، لأكتشف في كل مرة أن الفوضى تعيد ترتيب نفسها بطرق لم أتخيلها. كأن هناك سيناريو خفي يتجلى في اللحظة المناسبة، بأكثر الأشكال حكمة وتناسقاً.

ماتقييمك لهذا المنشور !

المشاركة على مواقع التواصل الإجتماعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *