Skip to main content

جولة في المدينة القديمة برفقة أمي

نشر بتاريخ: |

جولة في المدينة القديمة برفقة أمي

4.8
(18)

في عام 1948 استخدم الشاعر الإنجليزي ويستون أودن في مقدمته لديوان شعري لجون بينجامين مصطلح توبوفيليا[1]، يصف الحب الخاص للأماكن القديمة ويبين الإرتباط العاطفي بين الشخص والمكان. هكذا أمي عندما تدخل المدينة القديمة بالجديد، تشعر بأن بينهما ودا متبادلا لا تعرف تفسيره وحب قوي للمكان.

إنها النوستالجيا والحنين إلى الماضي البسيط ذاك الشعور بالاطمئنان الذي يغمرك عندما تلتقي بأصدقائك القدامى أو أثناء تصفحك لصورك القديمة. بطبيعة الحال كل منا يحن للماضي بمستويات مختلفة، لكن ارتباط أمي بالمدينة القديمة تراه جليا في لغة جسدها، في خفتها وهيا تتنقل بين الزناقي، في صوتها حين يغدوا رقيقا وناعما يردد بخفة رحم الله آباءنا… رحم الله أمهاتنا

مدخل زنقة القصر

رحم الله آباءنا… رحم الله أمهاتنا، هكذا أمي تردد في كل مرة تدخل المدينة القديمة بالجديد، تأخذ نفسا عميقا لتستنشق نفس الأجداد وأرواح من غادرنا وتركنا. غادرت أمي المدينة القديمة وانتقلت إلى منزلنا الحالي بعد زواجها بوالدي -رحمه الله-  بثلاث سنوات بعام 1974، تركت خلفها عبق عقود كثيرة من حلقات العلم وترانيم الذكر وجلسات ود مع الأهل، وعبق يحمل ذكريات قديمة.

لا تدخل أمي المدينة القديمة إلا وهيا لا تتوقف عن سرد كل حدث وذكره بكل زنقه ، تستند بيدها على الجدران وتلتفت لي لتخبرني بعض السرديات عن أوقات مرح وود جمعتها مع بنات الجيران بزنقة الرأس، عن صديقتها مبروكة إبراهيم التي ساعدتها في استكمال دراستها في وقت لم يسمح لها بمغادرة البيت للذهاب للمدرسة، كانت أمي تمشي لجانبي لتحدثني عن تاريخ من زوايا ذاكرة لا تمل أمي الحديث عنه. الجدران بالمدينة القديمة بالنسبة لأمي هيا أحاديث بلا صوت، لكن وحدها أمي قادرة على سمعها وترجمتها لنا.

ندخل بيت جدي بزنقة الرأس لنلتقي بمحض الصدفة ونحن نلتقط بعض الصور التذكارية، بابن جيران أمي العم مدني حسن مع ابنه يتجول معه. وهنا يعلوان صوتهم جميعا رحم الله أمهاتنا… رحم الله آباءنا. رافقنا مع ابنه لندخل منزل جدي حيث تربت أمي وعاشت طفولتها. كان المكان يعود بهم إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقفنا في السقيفة قليلا وشدهم الحوار وهم يتأملون عرصة البيت التي ترك عليها الزمن بصمته وتسقط لينهار معها جزء من سقف البيت. تخبرني أمي أن عملية صناعة السقف كان يتشارك فيه الجيران والأحبة، سقف البيت كان يعتمد في صناعته على النخل بالتحديد جدع النخلة هو قاعدة السقف أو كما تسميه أمي بالعرصة ، ومن تم تأتي عملية التسرير، حيث يشارك في هذه العملية الأحبة والجيران وأطفال الجامع والأذكار والأناشيد الدينية ترافقهم أيضا. (التسرير هو عملية ربط الجريد ببعضه بشكل حصيرة) يفرش الحصيرة على قاعدة السقف ويغطى بطبقات من الطين ليتماسك ويتحصل السقف على متانته.

سقف بيت جدي المنهار أثر سقووط العرصة وغياب الترميم

هناك في وسط الحوش لا زالت أثار البير متواجدة، أغلب البيوت بالمدينة القديمة تحتوي على آبار مياه، فلم تدخل المياه المدينة القديمة حتى بداية الخمسينيات. تحكي لي أمي ذكرياتها بأول يوم دخلت المياه للمدينة بالخمسينيات وفرحتهم وهم صغار، ونقلهم الماء بالباقول(إناء يصنع من الطفل لحفظ الماء) من الشيشمات(الحنفية) الرئيسية في الزناقي لداخل البيوت. الكهرباء أيضا دخلت السوق ببداية الستينيات قبل أن تدخل المدينة والبيوت بمنتصف الستينيات.

في زاوية صغيرة بوسط الحوش تقابلها طابونة المطبخ، (ارتفاع صغير يصنع من الطين لوضع القدر عليه ويتمكن من إضافة الحطب تحته أثناء الطهي) تجلس جدتي تفترش الحصيرة ومعها الجارات في الصباح أو عند المغرب، أمي تسميهم بركة البيت، فهكذا كانت جدتي صوفية ترحب بهن وهيا تحييهن أنتن بركتنا وخيرنا. تأتي كل منهن ومعها شغلها أي خدمتها التي اعتادت أن تسترزق منها، الخياطة أو صناعة الطبقان ، رمي التنور، نسج الصوف… إلخ، ولا تغيب المدائح والأذكار عن جلستهن.

أمي مع عمي مدني أمام باب المربوعة ببيت جدي

لا زالت أمي وعمي مدني يروون ذكريات أهاليهم وحوارياتهم لننتقل إلى مربوعة جدي، يخبرني عمي مدني بأن أكبر مربوعة كانت لجدي محمد حيث أضاف للمربوعة حجر لمنامات الضيوف، لا تقفل المربوعة أمام الضيوف القادمين من مختلف مناطق الجنوب لقضاء بعض الحوائج بسبها.

أمي تؤكد تعودنا على زحمة المربوعة ، وتضيف أبي هو أول من أدخل الراديو للمدينة القديمة ببداية الخمسينيات ومنها عدد الضيوف ازداد بالمربوعة ، تتذكر جيدا الحوارت التي كانت تناقش أخبار الصحف الثلاث التي لا تغيب عن مربوعة جدي (برقة الجديدة، طرابلس الغرب وفزان التي سميت فيما بعد البلاد) تلتفت أمي نحوي ونجمع الأحفاد الذي رافقونا للمرة الأولى في زيارة للمدينة القديمة لننتقل إلى السطح وهيا تستند بيدها على أحجار الحائط المجاور، أتأمل وجه أمي لتبدوا التجاعيد مليئة بأحاديث وذكريات وكأن قد نقش على وجهها وجها آخر، تردد مرة أخرى رحم الله آباءنا… رحم الله أمهاتنا.

 تحدثني أن الزيارات الصباحية للجارات وعماتها ازدادت أيضا بعد أن أدخل جدي الراديو للمدينة القديمة، تصف لي لمتهن في الحوش متجمعات منصتات لذلك الصوت الغريب القادم من الصندوق. يبدوا أن عشق أمي للراديو هو دافعا فطريا أصيلا فعشقها للراديو لم ينته لعند اليوم، فلا زالت لا تصحى ولا تنام إلا على صوت الراديو. تحصلت أمي على راديوها الأول في بداية الستينيات، حيث أشترى لها خالها دكتور إمحمد الراديو من بنغازي. تخبرني أنها لا زال يتردد صوت البث الإذاعي من الراديو بأذنها (هنا لندن، إذاعة الشرق الأوسط، صوت العرب). تعرفت أمي على أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب حين امتلكت راديوها الخاص. ننزل الدرج ونحن نمسك بالصغار بحذر. لتتنهد أمي وتردد قول للزمان ارجع يا زمان.

نغادر البيت لتشير أمي كعادتها كل مرة عند كل زيارة إلى أن عمر باب البيت القائم والموجود حاليا تجاوز الثمانون عاما، يبدوا صامدا مستقيما لم ينهشه الزمن، جودة خشبه وحجمه وترتيبه، هو الواشي الجميل بأسرار هذا البيت، فيروي حكاية أخرى، الباب وحده، صلابته قوته يحكي قصة ساكينيه، ثقافتهم، أفكارهم وروحهم الخالدة بيننا، وتجاعيد أمي الممتلئة عظمة وحب.

باب بيت جدي ، حيث تروي أمي أن عمره قد تجاوز 80 عام

نغادر البيت حيث أضاءت وجهها ابتسامة غيرت معالمها تماما

رحم الله آباءنا… رحم الله أمهاتنا

لا تتوقف أمي عن الدعاء لهم وهيا تمسح دموعها خلسة عني. تبقى ذكرياتها عالقة بذاكرة أمي مخلدة داخلها، يصعب نسيانه رغم الزمن.

أما عن نفسي فأحب زيارتها وأحب الإستماع إلى ذكريات ساكنيها. أتمشى في زناقيها من المولى إلى المشنقة والقصر والمجلس ولقعور ثم الدكوك ويبر الشريف والرأس والروماني.

إن قررتم زيارة المدينة القديمة فخذوا أمي معكم، تزور أحبتها وذكرياتها وتترجم لكم حوارات أحجارها الصامتة، فوحدها النوستالجيا المرتبطة بهذا المكان تعيد لأمي بهجتها.


[1] https://www.placeness.com/topophilia-and-topophils/

ماتقييمك لهذا المنشور !

المشاركة على مواقع التواصل الإجتماعي

تعليقات (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *